فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فمالِ الّذِين كفرُواْ قِبلك} أي في الجهة التي تليك {مُهْطِعِين} مسرعين نحوك مادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا.
{عنِ اليمين وعنِ الشمال عِزِين} جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص:
فجاؤا يهرعون إليه حتى ** يكونوا حول منبره عزينا

وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العز ولأن كل فرقة تعتزى وتنتسب إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم وقالوا عزى على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من {الذين كفروا} [المعارج: 36] أو من الضمير في {مُهْطِعِين} [المعارج: 36] على التداخل وعن اليمين إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو ب {مُهْطِعِين} أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزؤن بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية.
{أيطْمعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يُدْخل جنّة نعِيمٍ} أي بلا إيمان وهو إنكار لقولهم ان دخل هؤلاء الجنة إلخ وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وطلحة والمفضل عن عاصم {يدخل} بالبناء للفاعل.
{كلاّ} ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ {إِنّا خلقناهم مّمّا يعْلمُون} قيل هو تعليل للردع ومن أجلية والمعنى أنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطعموا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلى الله عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق باخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتى الديار الرومية ان الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عز وجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة والسلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشئ بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز وجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: {فلا أُقْسِمُ بِربّ المشارق والمغارب} أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب {إِنّا لقادرون}.
{على أن نُّبدّل خيْرا مّنْهُمْ} أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم وناتى بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم.
{وما نحْنُ} أي بمغلوبين ان أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث أن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة العلة مقام العلة مبالغة لما حكى عنهم طمع دخول الجنة ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل إنه ينكر البعث فأنى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الاستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الارتباط بما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه: {إنا لقادرون على أن نبدل} إلخ أن معناه إنا لقادرون على أن نعطي محمد صلى الله عليه وسلم من هو خير منهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعلمون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في فلا أقسم قد تقدم وقرأ قوم {فلا قسم} بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري {المشرق والمغرب} مفردين.
{فذرْهُمْ} فخلهم غير مكترث بهم {يخُوضُواْ} في باطلهم الذي من جملته ما حكى عنهم {ويلْعبُواْ} في دنياهم {حتى يلاقوا يوْمهُمُ الذي يُوعدُون} هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه: {يوْم يخْرُجُون مِن الأجداث} أي القبور فإنه بدل من {يومهم} وهو مفعول به لـ: {يلاقوا} وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل {يوم} مفعولا به لمحذوف كاذكر أو متعلقا بـ: {ترهقهم ذلة} مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {يلقوا} مضارع لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ {يخرجون} على البناء للمفعول من الاخراج {سِراعا} أي مسرعين وهو حال من مرفوع {يخرجون} وهو جمع سريع كظريف وظراف {كأنّهُمْ إلى نُصُبٍ} وهو ما نصب فعبد من دون الله عز وجل وعده غير واحد مفردا وأنشد قول الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ** لعاقبة والله ربك فاعبدا

وقال بعضهم هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والانصاب جمع الجمع وقرأ الجمهور {نصب} بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك وقال أبو عمر وهو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد وقيل ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد {نصب} بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة {نصب} بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف نصب بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد {يُوفِضُون} أي يسرعون وأصل الايفاض كما قال الراغب أن يعد ومن عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الانطلاق وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من إخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك.
{خاشعة أبصارهم} لعظم ما تحققوه ووصفت {أبصارهم} بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها {ترْهقُهُمْ} تغشاهم {ذِلّةٌ} شديدة {ذلك} الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة {اليوم الذي كانُواْ يُوعدُون} أي في الدنيا واسم الإشارة مبتدأ و{اليوم} خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار {ذلة} بغير تنوين مضافا إلى {ذلك اليوم} بالجر.
هذا واعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى ان مقداره خمسون ألف سنة أن المراتب أربع الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله تعالى خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الافلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الاعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها {أن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الاسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبة الجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة {كن} لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 69] فكان اليوم الواحد عند ظهور الاسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهور اسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمر الذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى كن وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحروف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربعة مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم بحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الامكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الورح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباه المقول فذاك وإلا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز وجل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق.
وللشيخ الأكبر قدس سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فمالِ الّذِين كفرُوا قِبلك مُهْطِعِين (36)}
استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.
فرع ذلك على ما أفاده في قوله: {أولئك جنات مكرمون} [المعارج: 35].
والمعنى: أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.
وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاما للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.
ومعنى {فما للذين كفروا}: أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا} في سورة البقرة (246).
وتركيب ما له لا يخلو من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبّ الاستفهام.
فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي {قِبلك} فيكون ظرفا مستقرا وصاحب الحال هو {للذين كفروا}.
ويجوز أن تكون {مهطعين} فيكون {قِبلك} ظرفا لغْوا متعلقا بـ {مهطعين}.
وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخر المُجرى اللائق به في التركيب.
وكتب في المصحف اللام الداخلة على {الذين} مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر.
والإِهطاع: مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} في سورة القمر (8).
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب الكشاف: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم.
فأنزل الله هذه الآية.
وقِبل: اسم بمعنى (عند).
وتقديم الظرف على {مهطعين} للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة.
وموقع قوله: {عن اليمين وعن الشمال} مثل موقع {قبلك} وموقع {مهطعين}.
والمقصود: كثرة الجهات، أي واردين إليك.
والتعريف في {اليمين} و{الشمال} تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه.
والمقصود من ذكر اليمين والشمال: الإِحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما، ومثله قول قطريّ بن الفُجاءةِ:
فلقد أراني للرماح دريئة ** مِن عنْ يميني مرّة وأمامي

يريد: من كل جهة.
و{عزِين} حال من {الذين كفروا}.
و{عزين}: جمع عِزة بتخفيف الزاي، وهي الفِرقة من النّاس، اسم بوزن فِعْلة.
وأصله عِزوة بوزن كِسوة، وليست بوزن عِدة.
وجرى جمع عِزة على الإِلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سنة من كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعُوض عنها هاء التأنيث ولم يكسّر مثل عِضة (للقطعة).
وهذا التركيب في قوله تعالى: {فما للذين كفروا قِبلك مهطعين} إلى قوله: {جنة نعيم} يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يُظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ طالبوا الاهتداء بهديه.
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها.
ويجوز أن يكون الكلام استفهاما مستعملا في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم.
وجملة {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم} بدل اشتمال عن جملة {فما للذين كفروا قِبلك مهطعين} الآية، لأنّ التفافهم حول النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يكون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأُورد استفهام عليه.
وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين: نحن ندخل الجنة قبل المسلمين، فجاز أن يكون الاستفهام إنكارا لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، أو بالتعبير بفعل {يطمع} عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سُورة تنبئهم بما في قلوبهم} [التوبة: 64] أي يتظاهرون بأنهم يحذرون.
وأُسند الطمع إلى {كل امرئ منهم} دون أن يقال: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، تصويرا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله: {كل امرئ منهم} تقوية التهكم بهم.
ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما بني عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي {كلا} أي لا يكون ذلك.
وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعا لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكما.
وهُنا تمّ الكلام على إثبات الجزاء.
{كلّا إِنّا خلقْناهُمْ مِمّا يعْلمُون (39)}
كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالا لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالا بقوله المتقدم آنفا {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} [المعارج: 6، 7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} [الواقعة: 62] فالخبر بقوله: {إنّا خلقناهم مما يعلمون} مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم.
فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفا.
والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.
فما صْدقُ (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوّن منها بتكوين آخر.
وعُدِل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} [الإنسان: 2] وقال: {أو لم ير الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 77، 78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: {مما يعلمون} توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذّكّرون} [الواقعة: 62].
وكان في قوله تعالى: {مما يعلمون} إيماء إلى أنهم يُخْلقون الخلق الثاني {مما لا يعلمون} كما قال في الآية الأخرى {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36] وقال: {وننشئكم فيما لا تعلمون} [الواقعة: 61] فكان في الخلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه.
ومجيء {إنا خلقناهم} موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيرا منهم} مفرعا على قوله: {إنا خلقناهم مما يعلمون} والتقدير: فإنا لقادرون الآية.
وجملة (لا أقسم برب المشارق) إلخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع {المشارق والمغارب} باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن.
وفي إيثار {المشارق والمغارب} بالقسم بربها رعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإِحياءِ بعد الموت.
وتقدم القول في دخول حرف النفي مع (لا أقسم) عند قوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} في سورة الحاقة (38، 39)، وقوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75).
وقوله: {على أن نبدل خيرا منهم} يحتمل معنيين: أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيرا منهم، أي نبدل ذواتهم خلقا خيرا من خلْقهم الذي هم عليه اليوم.
والخيرية في الإِتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقا أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلْق الأول مناسبا لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون {نُبدِّل} مضمنا معنى: نعوّض، ويكون المفعول الأول لـ {نبدل} ضميرا مثل ضمير {منهم} أي نبدلهم والمفعولُ الثاني {خيرا منهم}.
و(مِن) تفضيلية، أي خيرا في الخلقة، والتفضيلُ باعتبار اختلاف زماني الخلْق الأول والخلق الثاني، أو اختلاففِ عالميهما.
والمعنى الثاني: أنْ نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمّة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون {نبدل} على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفا مثل ما في المعنى الأول، ويكون {خيرا} منصوبا على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61]، ويكون هذا تهديدا لهم بأنْ سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين كما قال تعالى: {إن يشا يذهبكم ويأتتِ بخلق جديد} [فاطر: 16] وقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38].
وفي هذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.
وذيل بقوله: {وما نحن بمسبوقين} والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق في الحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} [العنكبوت: 4]، ومنه قول مرة بن عدّاء الفقعسي:
كأنك لم تُسبق من الدهر مرة ** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلُب

يريد: كأنك لم تُغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك.
و{على أن نبدل خيرا منهم} مُتعلق بـ {مسبوقين} أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة: (61) {إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم}.
{فذرْهُمْ يخُوضُوا ويلْعبُوا حتّى يُلاقُوا يوْمهُمُ الّذِي يُوعدُون (42)}.
تفريع على ما تضمنه قوله: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين} [المعارج: 36] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم: إننا ندخل الجنة، الاستهزاء بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعِلم بأنهم لم يُجْدِ فيهم الهديُ والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة.
ومعنى الأمر بالترك في قوله: {فذرهم} أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله: {يخوضوا ويلعبوا}.
فجملة {يخوضوا} وجملة {ويلعبوا} حالان من الضمير الظاهر في قوله: {فذرهم}.
وتلك الحال قيد للأمر في قوله: {فذرهم}.
والتقدير: فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم.
وتعدية فعل (ذرْ) إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات.
والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالى: {حُرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي حرم عليكم أكلُها، وقوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] أي أن تجمعُوهما معا في عصمة نكاححِ والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} في سورة الطور (45)، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله: {يخوضوا ويلعبوا} في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] إذ التقدير: فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام.
وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعُدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية.
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبْشة أختِ عمرو بن معد يكرب تُلْهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل:
ودعْ عنك عمْرا اِنّ عمْرا مُسالم ** وهل بطْنُ عمرو غيْرُ شِبْرٍ لمطْعم

وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8].
وبهذا تعلم أن قوله تعالى: {فذرهم} لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.
والخوض: الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
واللعب: الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا.
وجزم {يخوضوا ويلعبوا} في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر: أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك، ومثل هذا الجزم كثير نحو {قُل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجْزِي قوما بما كانوا يكسبون} [الجاثية: 14] ونحو {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53].
وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيت نكتة المبالغة.
و{حتى} متعلقة بـ (ذرهم) لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازوْن على استهزائهم وكفرهم، فلا يكون غاية لـ {يخوضوا ويلعبوا} والغاية هنا كناية عن دوام تركهم.
وإضافة (يوم) إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
وقرأ الجمهور {يلاقوا} بألف بعد اللام من الملاقاة.
وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء.
واللقاء: مجاز على كل تقدير: فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يلقى ولا يُلقى.
وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذّوات.
و{يوم يخرجون من الأجداث} بدل من {يومهم} ليس ظرفا.
والخروج: بروز أجسادهم من الأرض.
وقرأ الجمهور {يخرجون} بفتح التحتية على البناء للفاعل.
وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول.
و{الأجداث}: جمع جدث بفتحتين وهو القبر، والقبر: حفير يجعل لمواراة الميت.
وضمير {يخرجون} عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة.
وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر.
والنّصْب بفتح فسكون: الصنم، ويقال: نُصُب بضمتين، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة، قال الأعشى:
وذا النُصُب المنصوب لا تنسكنه ** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

و{يوفِضون} مضارع أوفض، إذا أسرع وعدا في سيره، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم، شُبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإِسراع اختصاصا بهم، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دع، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام.
وقرأ الجمهور {نصْب} بفتح النون وسكون الصاد.
وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد.
وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل، كما قال تعالى: {ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] وقال: {خُشّعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7].
وأصل الخشوع: ظهور الطاعة أو المخافة على الإِنسان.
والرهق: الغشيان، أي التغطية بساتر، وهو استعارة هنا لأن الذلة لا تغشى.
وجملة {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} فذلكة لما تضمنته السورة في أول أغراضها من قوله: {بعذاب واقع} إلى قوله: {في يوم كان مقداره} الآيات [المعارج: 1 4]، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة {حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} وفيها مُحسِّن رد العجز على الصدر. اهـ.